فصل: الفصل الثامن والثلاثون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الثامن والثلاثون:

ألا يعتبر المقيم منكم بمن رحل؟ ألا يندم من يعلم عواقب الكسل؟ آه لغافل كلما جد الموت هزل، ولعاقل كلما صعد العمر نزل.
أعد على فكرك أسلاف الأمم ** وقفْ على ما في القبور من رمم

وناديهم أين القوي منكم ** القاهر أم أين الضعيف المهتضم

تفاصلت أوصالهم فوق الثرى ** ثم تساوت تحته كلُّ قدم

قبرُ البخيل والكريم واحدٌ ** ما نفع البخل ولا ضر الكرم

واعجبًا لغافل أمامه ** هجوم ما لا يتقي إذا هجم

إذا تخطاه على عهد الصبي ** أو الشباب لم يفته في الهرم

أما كفى الإنسان موتُ بعضه ** وهو المشيب المستطير في اللمم

أي خليلين أقاما أبدًا ** ما افترقا وأي حبل ما انصرم

إن النجوم الدائرات أبدًا ** تضحك من مبتسم إذا ابتسم

أخواني، بادروا آجالكم، وحاذروا آمالكم، آمالكم عبرة فيمن مضى؟ آمالكم، ما هذا الغرور الذي قد أمالكم؟ ستتركون على رغم آمالكم مالكم.
أخواني، صدقتم الأمل فكذبكم، وأطعتم الهوى فعذبكم، أما أنذركم السقم بعد الصحة، والترحة بعد الفرحة، في كل يوم يموت من أشباحكم ما يكفي في نعي أرواحكم، ويحل بعقوقكم وفنائكم ما يخبركم عن شتاتكم وفنائكم، فخذوا حذركم قبل النوائب، فقد أتيتم من كل جانب، وتذكروا سهر أهل النار في النار، واحذروا فوت دار الأبرار، وتخوفوا يوم الفصل بين الفريقين أن يصيبكم من البين البين.
أخواني، أبصاركم قوية وبصائركم ضعيفة، ومن ترائى هواه توارى عنه عقله، سحبان من ظهر لخلقه بخلقه، غير أن عالم الحس لا يرونه، أما قلبك من نطفة إلى علقة وأنت كالجماد، كلما نفخ فيك الروح بعث الزاد بساق إليك من دم الأم فتتناوله باجتذاب السرة، إذ لو طرق الحلقوم تلفت، فلما خرجت إلى فلاة الدنيا رأيت أدواتي الثديين معلقتين لشربك، وكانت عمور الأسنان تكفي في اجتذاب المشروب، فكلما اعتصرته خرج مغربلًا لئلا يقع شرق، فلما قويت المعا وافتقرت إلى غذاء فيه صلابة أنبت الأسنان لتقطع والأضراس لتطحن ومن العجائب، أنه أخرجت غبيًا لا تعلم شيئًا، فلو أخرجك عاقلًا لرأيت من أطم المصائب تقلبك في الخرق والمصائب، ثم جعل بكاءك حينئذٍ متقاضيًا بالمصالح وبث القوى في باطنك فقوة تطلب الغذاء وثانية تجتذبه إلى الكبد وثالثة تمسكه لها حتى تطبخه فيصير دمًا، ورابعة تهضمه، وخامسة تفرق بين صفوه وكدره وسادسة تتولى قسمته، فلو بعثت إلى الخد، ما تبعث إلى الكخذ صار بمقداره، وسابعة تدفع ثقله.
أفيحسن بعد تفرقة الجامكية على العسكر، أن يثبوا في المخالفة للمنعم؟ ثم انظر إلى هذا الهواء الذي قد ملئ به الفضاء كيف تنتصب منه النفس إلى النفس؟ ثم هو للأصوات من حيث المعنى كالقرطاس، يرقم فيه الحوائج ثم يمتحي فيعود نقيًا، فأقوام يرقمون فيه الذكر والتسبيح، وآخرون يرقمون كل قبيح، وكم بين من يرقم تلاوة القرآن، وبين من يرقم أصوات العيدان؟ ثم تأمل آلات الأصوات، ترى الرئة كالرق، والحنجرة كالأنبوب، فإذا ظهر الصفر أخذ اللسان والشفتان في صناعته ألحانًا، فهو كالأصابع المختلفة على فم المزمار.
ثم تأمل الأرض، كيف مدها بساطًا وأمسكها عن الاضطراب لتصح للسكنى، ثم يزلزلها في وقت ليفطن الساكن بقدرة المزعج، وجعل فيها نوع رخاوة ليقبل الحفر والزرع، ورفع جانب السماء لينحدر الماء، وفرق المياه بين الجزائر ليرطب الهواء، وأودع المعادن كما تودع الحاجات في الخزائن، ولما بث الطير صان عنها السنبل، لأنه قوتك بقشور صلبة قايمات كالإبر لئلا تستفه فتموت بشماء، فيفوت الحظان، ثم تأمل الرماية كيف حشيت بالشحم بين الحب، ليكون غذاءًا لها إلى وقت عود المثل، ثم جعل كل حشوتين لفافة لئلا يتصاك فيجري الماء، ثم جاء بالشمس سراجًا ومنضجًا للثمر تجري لتعمر الأماكن ثم تغيب ليسكن الحيوان، ولما كانت الحوائج قد تعرض بالليل جعل في القمر خلفًا ولم يجعل طلوعه في الليل دائمًا، لئلا تنبسط الناس في أعمالهم كانبساطهم بالنهار، فيؤذي الحريص كلاله، ولما قدر غيبة القمر في بعض الليل جعل أنوار الكواكب كشعل النار في أيدي المقتبسين، ولما كانت حاجة الخلق إلى النار ضرورية أنشأها وجعلها كالمخزون، تستنهض وقت الحاجة فتمسك بالمادة، قدر مراد الممسك، ثم انظر إلى الطائر، لما كان يختلس قوته خوف اصطياده، صلب منقاره لئلا ينسحج من الالتقاط لأن زامن الانتهاب لا يحتمل المضغ، وجعل له حوصلة يجمع فيها الحب ثم ينقله إلى القانصة في زمان الأمن، فإن كانت له أفراخ أسهمهم من الحاصل في الحوصلة قبل النقل، فإن لم يكن له حنة على أفراخه أغنوا عنه باستقلالهم من حين انشقاق البيضة كالفراريج.
واعجبًا كيف يُعصى من هذه نعمه، وكيف لا تموت النفس حبًا لمن هذه حكمه، إن دنت همتك فخف من عقوبته، وإن علت قليلًا فارغب في معاملته، وإن تناهت فتعلق بمحبته، على قدر أهل العزم تأتي العزائم، إن قصرت همتك فآثرت قطع الشوك صحبك حمار، وإن رضيت سياسة الدواب رفقك بغل، وإن سددت بعض الثغور أعطيت فرسًا، فإن كنت تحسن السباق كان عربيًا، فإن عزمت على الحج ركبت جملًا، وإن شمخت همتك إلى الملك فالفيل مركب الملوك.
رأيت عليات الأمور منوطة ** بمستودعات في بطون الأساود

ليس كل الخيل للسباق ولا كل الطيور تحمل الكتب، من الناس من تشغله في الدنيا سوداء، ومنهم من لا يلهيه في الجنة قصر، ولا يسليه عن حبيبه نهر، قوته في الدنيا الذكر وفي الآخرة النظر.
يقول أناس لو تناسى وصالها ** وواصل أخرى غيرها لسلاها

فلا نظرت عين تلذ بغيرها ** ولا بقيت نفس تحب سواها

.الفصل التاسع والثلاثون:

أيها الغافل في إقامته عن نقلته، الجاهل وقد ملأ بما يملي بطن صحيفته، ألك زاد لسفرك على طول مسافته؟
خف الله وانظر في صحيفتك التي ** حوت كلما قدمته من فعالكا

فقد خط فيها الكاتبان فأكثروا ** ولم يبق إلا أن يقولا فذالكا

والله ما تدري إذا ما لقيتها ** أتوضع في يمناك أو في شمالكا

فلا تحسبن المرء يبقى مخلدًا ** فما الناس إلا هالك فابك هالكا

يا من تحصى عليه اللفظة والنظرة، مزق بيد الجد أثواب الفترة، وتأهب فما تدري السير عشاء أو بكرة، واعتبر بالقرباء فالعبرة تبعث العبرة، وتزود لسفرة ما مثلها سفرة، واقنع باليسير فالحساب عسير على الذرة، وإياك والحرام وانظر من أين الكسرة؟ قبل أن تلقى ساعة حسرة وتلقى بعدها في ظلمة حفرة.
لا يغرنك الزمان بيسر ** وسرور ولا يرعك بعسره

إن مر الزمان يمحق عسر المرء ** في لحظة ويذهب بسره

وسواء إذا انقضى يوم كسرى ** في نعيم ويوم صاحب كسره

أترى في عين العبرة رمد؟ أما تبصر انسلاخ الأمد؟ يا دائم المعاصي ما غيره الأبد، تصلي ولو التعود لم تكد، القلب غايب إنما جاء الجسد، الفكر يجول في طلب الدنيا من بلد إلى بلد، يا معرضًا عن بحر برناء لا تقنع بالثمد، يا مقتول الهوى ولكن بلا قود. بين الهوى والمنى، ضاع الجلد، أما يجول ذكر الموت في الخلد؟ أرأيت أحدًا من قبلك خلد؟ رب يوم معدود وليس في العدد، إنما الروح عارية في هذا الجسد، هذا بحر الغرور يقذف بالزبد، كم ركبه جاهل فغرق قبل البلد، هذا سهم المنون يفري حلق الزرد، أخواني دنا الصباح فقولوا لمن رقد: أين الوجوه الصباح؟ مرت على جدد، أين الظباء الملاح؟ اغتالها الأسد، هذا هو المصير. أما يرعوي أحد؟ قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع. ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فجد فيه الآن وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن.
أيها الطالب للدنيا وما يجد، كيف تجد الآخرة وما تطلب؟ ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني، سبعة يظلهم الله في ظله، منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخشى الله.
اسمع يا من أجاب عجوزًا على مزبلة، ويحك إنها سوداء، ولكن قد غلبت عليك، عرضت على نبيينا صلى الله عليه وسلم بطحاء مكة ذهبًا فأبى، يا محمد ممن تعلمت هذه القناعة؟ قال لسان حاله: من عجلة أبي، الحريص دائم السرى وما يحمد الصباح، من لا همة له سوى جمع الحطام معدود في الحشرات.
يا أطيار القلوب إلى كم في مزبلة الحبس؟ اكسري بالعزم قفص الحصر، واخرجي إلى فضاء صحراء القدس، روحي خماصًا من الهوى، تعودي بطانًا من الهدى، بين أبي الحركة وأم القصد ينتج ولد الظفر، لا ينال الجسيم بالهوينا، حمل النفس على حمل المشاق مدرجة إلى الشرف، واعجبًا من توقف الكالى والدر ينثر، أشهود كغياب؟ أكانون في آب؟، الحرب خصام قائم وأنت غلام نائم، ادخل بسلامتك لابس لامتك، ليس في سلاح المحارب أحدّ من نبلة عوم، أجرأ الليوث أجرها للصيود.
ليس عزمًا ما مرض العزم فيه ** ليس هما ما عاق عنه الظلام

طر بجناح الجد من وكر الكسل، تابعًا آثار الأحباب تصل.
للشريف الرضي:
تلفّت حتى لم يبِن من ديارهم ** جناب ولا من نارهن وقود

وإن التفات القلب من بعد طَرْفه ** طَوال الليالي نحوهم ليزيد

ولو قال لي الغادون ما أنت مُشْتَهٍ ** غداةَ جزعنا الرمل قلت أعود

أأصبر والوَعساءُ بيني وبينهم ** وأعلام خَبتٍ إنني لجليد

يا مخنث العزم أين أنت والطريق؟ سبيل نصب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار إبراهيم الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم، وذهبت من البكاء عين يعقوب، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيى، وضنى بالبلاء أيوب، وزاد على المقدار موسى، وهام مع الوحوش عيسى، وعالج الفقر محمد صلى الله عليه وسلم.
فيا دارهم بالحزن أن مزارها ** قريب ولكن دون ذلك أهوال

أول قدم في الطريق بذل الروح، هذه الجادة فأين السالك؟ هذا قميص يوسف فأين يعقوب؟ هذا طور سينا فأين موسى؟ يا جنيد احضر، يا شبلي اسمع.
بدم المحب يباع وصلهم ** فمن الذي يبتاع بالسعر